كتاب: فتاوى الرملي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتاوى الرملي



(سُئِلَ) رَحِمَهُ اللَّهُ هَلْ تَنَامُ الْمَلَائِكَةُ أَمْ لَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ}؟
(فَأَجَابَ) قَالَ الْقَاضِي الْبَيْضَاوِيُّ النَّوْمُ حَالَةٌ تَعْرِضُ لِلْحَيَوَانِ مِنْ اسْتِرْخَاءِ أَعْضَاءِ الدِّمَاغِ مِنْ رُطُوبَاتِ الْأَبْخِرَةِ الْمُتَصَاعِدَةِ بِحَيْثُ تَقِفُ الْحَوَاسُّ الظَّاهِرَةُ عَنْ الْإِحْسَاسِ رَأْسًا. اهـ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَبِالْجُمْلَةِ فَالنَّوْمُ فُتُورٌ يَعْتَرِي الْإِنْسَانَ وَلَا يَفْقِدُ مَعَهُ عَقْلَهُ. اهـ.
وَقَالَ الزَّنْجَانِيُّ ذَكَرَ وَالِدِي وَشَيْخِي قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ فِي كِتَابِ جَوَامِعِ الْحَقَائِقِ وَالْأُصُولِ فِي شَرْحِ أَحَادِيثِ الرَّسُولِ عِنْدَ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّ اللَّهَ لَا يَنَامُ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ» إنَّ النَّوْمَ لَمَّا كَانَ حَالَةً تَعْرِضُ لِلْحَيَوَانِ بِوَاسِطَةِ اسْتِرْخَاءٍ يَحْدُثُ فِي الْأَعْصَابِ الدِّمَاغِيَّةِ عِنْدَ تَصَاعُدِ الْأَبْخِرَةِ إلَيْهَا اسْتَحَالَ عُرُوضُهُ لِلْمُنَزَّهِ عَنْ الْجِسْمِيَّةِ. اهـ.
وَقَدْ عُلِمَ مِنْ تَفْسِيرِ النَّوْمِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّهُمْ لَا يَنَامُونَ فَإِنَّهُمْ أَجْسَامٌ لَطِيفَةٌ قَادِرَةٌ عَلَى التَّشَكُّلِ بِأَشْكَالٍ مُخْتَلِفَةٍ.
(سُئِلَ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَلْ بُعِثَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمَلَائِكَةِ كَالْإِنْسِ وَالْجِنِّ كَمَا رَجَّحَهُ السُّبْكِيُّ وَالْبَارِزِيُّ وَالْجَلَالُ السُّيُوطِيّ فِي الْخَصَائِصِ أَمْ لَا؟
(فَأَجَابَ) لَمْ يُبْعَثْ إلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَدْ فَسَّرَ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خَبَرِ مُسْلِمٍ: «وَأُرْسِلْتُ إلَى الْخَلْقِ كَافَّةً بِالْإِنْسِ وَالْجِنِّ» كَمَا فَسَّرَ بِهِمَا مَنْ بَلَغَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَأُوحِيَ إلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} أَيْ بَلَغَهُ الْقُرْآنُ وَالْعَالَمِينَ فِي قَوْله تَعَالَى: {نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} وَصَرَّحَ الْحَلِيمِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَابِ التَّاسِعِ مِنْ شُعَبِ الْإِيمَانِ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ رَسُولًا إلَى الْمَلَائِكَةِ وَفِي الْبَابِ الْخَامِسَ عَشَرَ بِانْفِكَاكِهِمْ مِنْ شَرْعِهِ، وَفِي تَفْسِيرِ الْإِمَامِ الرَّازِيِّ وَالْبُرْهَانِ لِلنَّسَفِيِّ حِكَايَةُ الْإِجْمَاعِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ رَسُولًا إلَيْهِمْ، وَعِبَارَةُ الرَّازِيِّ ثُمَّ قَالُوا: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَحْكَامٍ.
الْأَوَّلُ أَنَّ الْعَالَمَ كُلُّ مَا سِوَى اللَّهِ فَيَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْمُكَلَّفِينَ مِنْ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالْمَلَائِكَةِ لَكِنَّا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَكُنْ رَسُولًا إلَى الْمَلَائِكَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى كَوْنُهُ رَسُولًا إلَى الْإِنْسِ وَالْجِنِّ جَمِيعًا وَبَطَلَ قَوْلُ مَنْ قَالَ إنَّهُ كَانَ رَسُولًا إلَى الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ. اهـ.
وَفِي بَعْضِ نُسَخِهِ لِكِتَابَيْنَا، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ وَالْمُرَادُ بِالْعَالَمِينَ هُنَا الْإِنْسُ وَالْجِنُّ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ رَسُولًا إلَيْهِمَا وَنَذِيرًا لَهُمَا. اهـ.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَأُوحِيَ إلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} مَنْ بَلَغَهُ الْقُرْآنُ مِنْ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فَهُوَ نَذِيرٌ لَهُ. اهـ.
وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ أَيْ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ يَا أَهْلَ مَكَّةَ وَسَائِرَ مَنْ بَلَغَهُ مِنْ الْأَسْوَدِ وَالْأَحْمَرِ وَمِنْ الثَّقَلَيْنِ وَقَالَ فِي قَوْله تَعَالَى: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} لِلْجِنِّ وَالْإِنْسِ. اهـ.
وَقَالَ الْبَغَوِيّ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ أَيْ لِلْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَذِيرًا قَالَ السَّمَرْقَنْدِيُّ: وَمَنْ بَلَغَهُ الْقُرْآنُ مِنْ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَقَالَ: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} الْإِنْسُ وَالْجِنُّ. اهـ.
وَقَالَ السُّبْكِيُّ فِي جَوَابِ السُّؤَالِ عَنْ رِسَالَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى فِي تَعْدَادِ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ: الْآيَةُ الْعَاشِرَةُ: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} قَالَ الْمُفَسِّرُونَ كُلُّهُمْ فِي تَفْسِيرِهَا لِلْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ وَلِلْمَلَائِكَةِ. اهـ.
وَمِمَّنْ جَزَمَ بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ رَسُولًا إلَيْهِمْ مَحْمُودُ بْنُ حُمْرَةَ الْكَرْمَانِيُّ فِي كِتَابِ الْعَجَائِبِ وَالْغَرَائِبِ وَهُوَ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ وَزَيْنُ الدِّينِ الْعِرَاقِيُّ فِي نُكَتِهِ عَلَى ابْنِ الصَّلَاحِ وَالْجَلَالُ الْمَحَلِّيُّ فِي شَرْحِ جَمْعِ الْجَوَامِعِ وَالْجَلَالُ السُّيُوطِيّ فِي شَرْحِ التَّقْرِيبِ وَالْحَدِيثِ وَشَرْحِ الْكَوْكَبِ السَّاطِعِ فِي الْأُصُولِ وَقَدْ اسْتَدَلَّ الْجَلَالُ السُّيُوطِيّ لِمَا رَجَّحَهُ فِي الْخَصَائِصِ بِأُمُورٍ.
أَوَّلُهَا قَالَ وَهُوَ أَقْوَاهَا قَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} الْآيَةَ فَهِيَ إنْذَارٌ لِلْمَلَائِكَةِ عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْقُرْآنِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ.
ثَانِيهَا قَالَ عِكْرِمَةُ صُفُوفُ أَهْلِ الْأَرْضِ عَلَى صُفُوفِ أَهْلِ السَّمَاءِ فَإِذَا وَافَقَ آمِينَ فِي الْأَرْضِ آمِينَ فِي السَّمَاءِ غُفِرَ لِلْعَبْدِ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا تَصَافُّونَ كَمَا تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا قَالُوا وَكَيْفَ تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا قَالَ يُتِمُّونَ الصُّفُوفَ الْأُوَلَ وَيَتَرَاصُّونَ فِي الصَّفِّ».
ثَالِثُهَا أَنَّ إسْرَافِيلَ مُؤَذِّنُ أَهْلِ السَّمَاءِ يَسْمَعُ تَأْذِينَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِينَ إلَّا الْجِنَّ وَالْإِنْسَ ثُمَّ يَتَقَدَّمُ بِهِمْ عَظِيمُ الْمَلَائِكَةِ يُصَلِّي بِهِمْ، وَأَنَّ مِيكَائِيلَ يَؤُمُّ الْمَلَائِكَةَ فِي الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ.
رَابِعُهَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إنَّ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ صَلَاةُ الْمَلَائِكَةِ.
خَامِسُهَا مَا رُوِيَ عَنْ سُلَيْمَانَ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا: «إذَا كَانَ الرَّجُلُ فِي أَرْضٍ فَأَقَامَ الصَّلَاةَ صَلَّى خَلْفَهُ مَلَكَانِ، فَإِذَا أَذَّنَ وَأَقَامَ صَلَّى خَلْفَهُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ مَا لَا يُرَى طَرَفَاهُ يَرْكَعُونَ بِرُكُوعِهِ وَيَسْجُدُونَ بِسُجُودِهِ وَيُؤَمِّنُونَ عَلَى دُعَائِهِ».
وَذَكَرَ السُّبْكِيُّ فِي الْحَلَبِيَّاتِ أَنَّ الْجَمَاعَةَ تَحْصُلُ بِالْمَلَائِكَةِ كَمَا تَحْصُلُ بِالْآدَمِيِّينَ قَالَ وَبَعْدَ أَنْ قُلْت ذَلِكَ بَحْثًا رَأَيْته مَنْقُولًا فِي فَتَاوَى الْحَنَّاطِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا فِيمَنْ صَلَّى فِي فَضَاءٍ مِنْ الْأَرْضِ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ وَكَانَ مُنْفَرِدًا ثُمَّ حَلَفَ أَنَّهُ صَلَّى بِالْجَمَاعَةِ هَلْ يَحْنَثُ أَوْ لَا؟ فَأَجَابَ بِأَنَّهُ يَكُونُ بَارًّا فِي يَمِينِهِ وَقَالَ الْأَصْحَابُ يُسْتَحَبُّ لِلْمُصَلِّي إذَا سَلَّمَ أَنْ يَنْوِيَ بِالسَّلَامِ مَنْ عَلَى يَمِينِهِ وَيَسَارِهِ مِنْ مَلَائِكَةٍ، وَإِنْسٍ وَجِنٍّ.
سَادِسُهَا أَنَّهُ لَمَّا أُسْرِيَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ مَلَكٌ مِنْ الْحِجَابِ فَقَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ إلَى أَنْ قَالَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ إلَى أَنْ قَالَ ثُمَّ أَخَذَ الْمَلَكُ بِيَدِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدَّمَهُ فَأَمَّ أَهْلَ السَّمَاءِ فَيَوْمَئِذٍ أَكْمَلَ اللَّهُ لِمُحَمَّدٍ الشَّرَفَ عَلَى أَهْلِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَفِيهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ فَقَالَ الْمَلَكُ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ فَقَالَ اللَّهُ صَدَقَ عَبْدِي دَعَا إلَى فَرِيضَتِي إلَى أَنْ قَالَ ثُمَّ قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ تَقَدَّمْ فَتَقَدَّمَ فَأَمَّ أَهْلَ السَّمَاءِ فَتَمَّ لَهُ شَرَفُهُ عَلَى سَائِرِ الْخَلْقِ.
قَالَ الْجَلَالُ: وَفِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى إرْسَالِهِ إلَى الْمَلَائِكَةِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ.
الْأَوَّلُ شَهَادَةُ الْمَلَكِ بِالرِّسَالَةِ مُطْلَقًا حَيْثُ قَالَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ.
الثَّانِي قَوْلُ اللَّهِ فِي دُعَاءِ الْمَلَكِ إلَى الصَّلَاةِ دَعَا إلَى فَرِيضَتِي فَإِنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا فُرِضَتْ عَلَى أَهْلِ السَّمَاءِ كَمَا فُرِضَتْ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ.
الثَّالِثُ إمَامَتُهُ لِأَهْلِ السَّمَوَاتِ وَصَلَاةُ الْمَلَائِكَةِ بِأَسْرِهِمْ خَلْفَهُ وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى اتِّبَاعِهِمْ لَهُ.
الرَّابِعُ قَوْلُهُ فَيَوْمَئِذٍ أَكْمَلَ اللَّهُ لِمُحَمَّدٍ الشَّرَفَ عَلَى أَهْلِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَإِكْمَالُ الشَّرَفِ لَهُ بِبَعْثِهِ إلَيْهِمْ وَكَوْنِهِمْ مِنْ أَتْبَاعِهِ وَكَأَنَّهُ فِي هَذَا الْوَقْتِ أُرْسِلَ إلَيْهِمْ وَلَمْ يَكُنْ أُرْسِلَ إلَيْهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ.
سَابِعُهَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَزَلَ آدَم بِالْهِنْدِ وَاسْتَوْحَشَ فَنَزَلَ جِبْرِيلُ فَنَادَى بِالْآذَانِ اللَّهُ أَكْبَرُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مَرَّتَيْنِ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ مَرَّتَيْنِ فَهَذِهِ شَهَادَةٌ مِنْ جِبْرِيلَ بِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثَامِنُهَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ أَنَّهُ مَكْتُوبٌ عَلَى الْعَرْشِ وَعَلَى كُلِّ سَمَاءٍ وَعَلَى كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ وَعَلَى أَوْرَاقِ أَشْجَارِ الْجَنَّةِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ.
تَاسِعُهَا قَدْ صَرَّحَ السُّبْكِيُّ فِي تَأْلِيفٍ لَهُ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرْسِلَ إلَى جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ فَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُنْت نَبِيًّا وَآدَمُ بَيْنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ» وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بُعِثْت إلَى النَّاسِ كَافَّةً» قَالَ وَلِهَذَا أَخَذَ اللَّهُ الْمَوَاثِيقَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ}.
وَقَالَ السُّدِّيُّ فِي الْآيَةِ لَمْ يُبْعَثْ نَبِيٌّ قَطُّ مِنْ لَدُنْ نُوحٍ إلَّا أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَهُ لَتُؤْمِنَنَّ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَمْ يَزَلْ يَتَقَدَّمُ فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى آدَمَ فَمَنْ بَعْدَهُ وَلَمْ تَزَلْ الْأُمَمُ تَتَبَاشَرُ بِهِ وَتَسْتَفْتِحُ بِهِ، وَقَالَ أَيْضًا أَوْحَى اللَّهُ إلَى عِيسَى آمِنْ بِمُحَمَّدٍ وَمُرْ مَنْ أَدْرَكَهُ مِنْ أُمَّتِك أَنْ يُؤْمِنَ فَلَوْلَا مُحَمَّدٌ مَا خَلَقْت آدَمَ وَلَا الْجَنَّةَ وَلَا النَّارَ.
قَالَ السُّبْكِيُّ: عَرَفْنَا بِالْخَبَرِ الصَّحِيحِ حُصُولَ الْكَمَالِ مِنْ قَبْلِ خَلْقِ آدَمَ لِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ رَبِّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَأَنَّهُ أَعْطَاهُ النُّبُوَّةَ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ ثُمَّ أَخَذَ لَهُ الْمَوَاثِيقَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ لِيَعْلَمُوا أَنَّهُ الْمُقَدَّمُ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّهُ نَبِيُّهُمْ وَرَسُولُهُمْ وَفِي أَخْذِ الْمَوَاثِيقِ وَهِيَ فِي مَعْنَى الِاسْتِحْلَافِ وَلِذَلِكَ دَخَلَتْ لَامُ الْقَسَمِ فِي {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} لَطِيفَةٌ أُخْرَى وَهِيَ كَانَ إيمَانُ الْبَيْعَةِ الَّتِي تُؤْخَذُ لِلْخُلَفَاءِ أُخِذَتْ مِنْ هُنَا فَانْظُرْ هَذَا التَّعْظِيمَ الْعَظِيمَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ رَبِّهِ فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيُّ الْأَنْبِيَاءِ.
وَلِهَذَا ظَهَرَ فِي الْآخِرَةِ جَمِيعُ الْأَنْبِيَاءِ تَحْتَ لِوَائِهِ، وَفِي الدُّنْيَا كَذَلِكَ لَيْلَةُ الْإِسْرَاءِ صَلَّى بِهِمْ وَلَوْ اتَّفَقَ مَجِيئُهُ فِي زَمَنِ آدَمَ وَنُوحٍ، وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى وَجَبَ عَلَيْهِمْ فَنُبُوَّتُهُ عَلَيْهِمْ وَرِسَالَتُهُ إلَيْهِمْ مَعْنًى حَاصِلٌ لَهُ، وَإِنَّمَا أَمْرُهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى اجْتِمَاعِهِمْ بِهِ فَتَأَخُّرُ ذَلِكَ الْأَمْرِ رَاجِعٌ إلَى وُجُودِهِمْ لَا إلَى عَدَمِ اتِّصَافِهِ بِمَا يَقْتَضِيهِ وَفَرْقٌ بَيْنَ تَوَقُّفِ الْفِعْلِ عَلَى قَبُولِ الْمَحَلِّ وَتَوَقُّفِهِ عَلَى أَهْلِيَّةِ الْفَاعِلِ فَهُنَا لَا تَوَقُّفَ مِنْ جِهَةِ الْفَاعِلِ وَلَا مِنْ جِهَةِ ذَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشَّرِيفَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَةِ وُجُودِ الْعَصْرِ الْمُشْتَمِلِ عَلَيْهِ فَلَوْ وُجِدَ فِي عَصْرِهِمْ لَزِمَهُمْ اتِّبَاعُهُ بِلَا شَكٍّ وَلِهَذَا يَأْتِي عِيسَى فِي آخِرِ الزَّمَانِ عَلَى شَرِيعَتِهِ وَيَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْهَا مِنْ أَمْرٍ وَنَهْيٍ مَا يَتَعَلَّقُ بِسَائِرِ الْأُمَّةِ، وَهُوَ نَبِيٌّ كَرِيمٌ عَلَى حَالِهِ لَمْ يَنْقُصْ مِنْهُ شَيْءٌ وَكَذَلِكَ لَوْ بُعِثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي زَمَانِهِ أَوْ زَمَانِ مُوسَى، وَإِبْرَاهِيمَ وَنُوحٍ وَآدَمَ كَانُوا مُسْتَمِرِّينَ عَلَى نُبُوَّتِهِمْ وَرِسَالَتِهِمْ إلَى أُمَمِهِمْ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيٌّ عَلَيْهِمْ وَرَسُولٌ إلَى جَمِيعِهِمْ فَنُبُوَّتُهُ وَرِسَالَتُهُ أَعَمُّ وَأَشْمَلُ وَأَعْظَمُ، وَتَتَّفِقُ مَعَ شَرَائِعِهِمْ فِي الْأُصُولِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَخْتَلِفُ، وَتُقَدَّمُ شَرِيعَتُهُ فِيمَا عَسَاهُ يَقَعُ الِاخْتِلَافُ فِيهِ مِنْ الْفُرُوعِ إمَّا عَلَى سَبِيلِ التَّخْصِيصِ، وَإِمَّا عَلَى سَبِيلِ النَّسْخِ أَوْ لَا نَسْخَ وَلَا تَخْصِيصَ بَلْ تَكُونُ شَرِيعَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تِلْكَ الْأَوْقَاتِ بِالنِّسْبَةِ إلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ هَذِهِ الشَّرِيعَةَ وَالْأَحْكَامُ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ وَالْأَشْخَاصِ. اهـ.
كَلَامُ السُّبْكِيّ قَالَ الْجَلَالُ وَيَدُلُّ لِكَوْنِهِ مُرْسَلًا إلَى الْأَنْبِيَاءِ أَنَّهُ كَانَ نَقْشُ خَاتَمِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُد لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ نَبِيُّ الْأَنْبِيَاءِ وَرَسُولٌ إلَيْهِمْ، وَأَنَّهُمْ أَفْضَلُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ رَسُولًا إلَى الْمَلَائِكَةِ، وَأَنْ تَكُونَ مِنْ أَتْبَاعِهِ.
عَاشِرُهَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُعْطِيَ مِنْ الْمَلَائِكَةِ أُمُورًا لَمْ يُعْطَهَا أَحَدٌ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ مِنْهَا قِتَالُهُمْ مَعَهُ وَمَشْيُهُمْ خَلْفَ ظَهْرِهِ إذَا مَشَى، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّ اللَّهَ أَيَّدَنِي بِأَرْبَعَةِ وُزَرَاءَ اثْنَيْنِ مِنْ أَهْلِ السَّمَاءِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَاثْنَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ» وَالْوَزِيرُ مِنْ أَتْبَاعِ الْمَلِكِ ضَرُورَةً فَجِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ رُءُوسُ أَهْلِ مِلَّتِهِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ كَمَا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رُءُوسُ أَهْلِ مِلَّتِهِ مِنْ بَنِي آدَمَ، وَأَنَّهُ لَمَّا مَاتَ صَلَّتْ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ بِأَسْرِهِمْ لَمْ يَتَخَلَّفْ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَلَمْ يَقَعْ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَسْأَلُونَ الْمَوْتَى فِي قُبُورِهِمْ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِأَحَدٍ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ سِوَاهُ.
وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَحْضُرُ أُمَّتَهُ إذَا لَاقَتْ الْعَدُوَّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى لِنُصْرَتِهِ وَهَذِهِ خَصِيصَةٌ مُسْتَمِرَّةٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَأَنَّ جِبْرِيلَ يَحْضُرُ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِهِ لِيَطْرُدَ عَنْهُ الشَّيْطَانَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، وَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَنْزِلُ كُلَّ سَنَةٍ لَيْلَةَ الْقَدْرِ عَلَى أُمَّتِهِ وَتُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّهَا أُعْطِيت قِرَاءَةَ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ مِنْ كِتَابِهِ وَلَمْ تُعْطَ قِرَاءَةَ شَيْءٍ مِنْ سَائِرِ الْكُتُبِ، وَأَنَّهُ نَزَلَ إلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ مَا لَمْ يَنْزِلْ إلَى الْأَرْضِ مُنْذُ خُلِقَ كَإِسْرَافِيلَ، وَأَنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ اسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَسْتَأْذِنْ عَلَى أَحَدٍ قَبْلَهُ.
وَأَنَّهُ وُكِّلَ بِقَبْرِهِ الشَّرِيفِ مَلَكٌ يُبَلِّغُهُ سَلَامَ مَنْ يُصَلِّي عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ يَنْزِلُ عَلَى قَبْرِهِ الشَّرِيفِ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ يَضْرِبُونَهُ بِأَجْنِحَتِهِمْ وَيَحُفُّونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لَهُ وَيُصَلُّونَ عَلَيْهِ إلَى أَنْ يُمْسُوا فَإِذَا أَمْسَوْا عَرَجُوا وَهَبَطَ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ كَذَلِكَ إلَى أَنْ يُصْبِحُوا إلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ خَرَجَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَبْعِينَ أَلْفَ مَلَكٍ. اهـ. مُلَخَّصًا.
وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذِهِ الْأَدِلَّةِ تَصْرِيحٌ بِبَعْثَتِهِ إلَيْهِمْ وَلَا مُلَازَمَةَ بَيْنَ عِبَادَتِهِمْ وَبَيْنَ بَعْثَتِهِ إلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ عِبَادَتَهُمْ تَكُونُ بِالْأَخْذِ عَنْ رَبِّهِمْ أَوْ بِإِرْسَالِ ذَلِكَ مِنْ جِنْسِهِمْ إلَيْهِمْ كَجِبْرِيلَ أَوْ إسْرَافِيلَ أَوْ غَيْرِهِمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنْ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنْ النَّاسِ} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنْ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا}، وَإِنَّمَا سُقْت الْأَدِلَّةَ الْمَذْكُورَةَ لِئَلَّا يَتَوَهَّمَ الْوَاقِفُ عَلَى إفْتَائِي الْمَذْكُورِ أَنَّنِي لَوْ وَقَفْت عَلَيْهَا لَمَا خَالَفْتهمَا وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ لَوْ كَانَتْ دَالَّةً عَلَى الْمُدَّعِي يَكْفِي فِي رَدِّهَا مُسْتَنَدُ الْإِجْمَاعِ.